
بينما كان في كامبردج درس داروين مواد متفرقة, دينية وعلمية. لكن تأثر بشكل خاص ببروفيسور علم النبات “هنسلو” ورافقه وتعلم على يديه، وعند تخرجه عام 1831 أوصى هنسلو بإرسال داروين على متن السفينة الشهيرة “بيغل” التابعة للبحرية البريطانية في رحلة حول العالم لمسح شواطئ جنوب أمريكا ثم عبر المحيط الهادئ حتى أستراليا في مدة تبلغ خمس سنين (شاهد صورة 1), وكان غرض داروين هو دراسة الطبيعة وعلم الأرض في تلك المناطق. على الرغم من أن داروين كان مغرماً بالتاريخ الطبيعي لكن تركيزه كان على علم الأرض -الجيولوجيا- أكثر من الأحياء كما بدا ذلك جلياً في كتاباته آنذاك، لكن ذلك لم يعني تجاهله لعلم الأحياء بالكامل فقد كانت ملاحظاته الأحيائية وكذلك العديد من عينات النباتات والحيوانات في تلك الرحلة نواة لنظريته الأشهر “التطور بالانتخاب الطبيعي” والتي وقعت في كتابه “عن أصل الأنواع بواسطة الانتخاب الطبيعي” (المطبوع في لندن، 1859) وكتابه الآخر ” “أصل الإنسان” (المطبوع في لندن 1871).
استكشف داروين عالماً مختلفاً جداً عما كان يعرفه من قبل, حيث رأى طيوراً ذات أقدام زرقاء وأسماك قرش لها رأس على شكل حرف “تي” وسلاحف هائلة الحجم. كلما زار داروين مكاناً جديداً فإنه يجمع عينات من النباتات والحيوانات والمستحثات التي يجدها, وكذلك يكتب ملاحظات غزيرة يصف بها ما شاهده. هذه الحصيلة المنتقاة والمقيدة ساعدت داروين ووجهته لتطوير نظريته المثيرة.
عاد داروين عام 1836 إلى إنجلترا ولبث سنيناً يفحص ويحلل حصاد الرحلة من الكائنات والملاحظات. لاحظ داروين وجود نوع من الانتخاب الطبيعي يتسبب في إبقاء وتناسل الكائنات ذات الخصائص الأنسب لبيئتها وكأنها اضطرّت للتطور وتوريث هذه الخصائص والصفات عبر الأجيال. بالتدريج تصبح هذه الخصائص أكثر انتشاراً مما يؤدي بالنوع للتغير عبر الزمن, وإذا كانت التغيرات المتراكمة كبيرة كفاية فإنها تنتج نوعاً جديداً مختلفاً.
جمع داروين بعضاً من طيور الحسّون من جزر غالاباغوس والتي ساعدته لتأصيل فكرته حيث لاحظ أن مناقير هذه الطيور متناسبة مع غذائها. بعض هذه الطيور كان لها مناقير عريضة لالتقاط وأكل البذور, وبعضها الآخر له منقار نحيف لأكل الحشرات (شاهد صورة 2). استوعب داروين أن هذه الطيور متحدرة من سلف واحد, لكن ريثما تفرقوا في جزر مختلفة فإن سلالات الطيور هذه تأقلمت مع بيئتها الجديدة والأغذية المتاحة لها هناك, مما حدا بالانتخاب الطبيعي لتطوير 13 نوعاً مختلفاً من طيور الحسّون.
علم داروين أن أفكاره وأطروحاته الجديدة ستلاقي معارضة شديدة, فآثر تأجيل نشرها لسنين عديدة لحين تجميع عدد أكبر من البراهين -والذي تضمن التواصل مع أساتذة من جامعته كامبردج وكذلك مزارع الخنازير ومربوا الحمام. خلال هذا الوقت علم داروين بأن العالم الطبيعي الشاب “الفريد رسل والاس” قد توصل لأفكار مشابهة لأفكاره, ومن باب الأمانة قبل داروين بأن يسبقه والاس في طرح بحثه عن التطور بواسطة الانتخاب الطبيعي ونشره لكن من حوله دعوه لحل عادل وذلك مشاركة والاس للبحث. وهو ما كان..
بعد سنة من ذلك وفي عام 1859, رأى كتاب داروين المثير للجدل “أصل الأنواع” النور. غني عن القول أن كتاب داروين هذا والذي أوضح فيه نظريته قد واجه غضباً عارماً من قبل كنيسة إنجلترا حيث رأوا أن هذه النظرية تعارض الاعتقاد بالخلق الربّاني, لذا اتهمه معارضوا داروين بالكفر والتجديف, لكن محاولاتهم لم تغني عن أن يصير كتاب داروين الأكثر مبيعاً.
كتاب داروين الآخر “أصل الإنسان” والذي نشر عام 1871, قد أثار هو الآخر نقاشاً واختلافاً أكبر حيث أنه ذكر أن البشر انحدروا من فصيلة الرئيسيات -والتي تضم أنواع القرود المختلفة.
على من أن نظرية داروين تم تعديلها عبر السنين, لكنها بقيت أساسية في دراسة علوم الحياة والطبيعة وإن بقي الجدل قائماً. يرى البعض أن نظرية التطور لا يجدر تدريسها في حصص الأحياء والعلوم في المدرسة , لكن المجتمع العلمي يقبلها كأفضل نظرية مُبَرْهَنَة لتفسير تنوع وتعقيد الحياة على الأرض.
داروين غير نظرتنا واعتقادنا عما نراه من النباتات والحيوانات بل وعن أنفسنا كبشر..
معاذ الدهيشي
المصدر ولقراءة ومشاهدة المزيد:
متحف التاريخ الطبيعي بلندن
MathMaroc | الخميس, فبراير 12, 2015 |
شارك الموضوع مع أصدقائك كي تعم اﻹستفادة
مواضيع مشابهة قد تهمك
|